عزيز الحلاج نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 03 - 01 - 2011
غني عن البيان أن الزجل أو الشعر العامي من فن القول. وهو نظم يشبه في
قليل وكثير نظم الشعر الحر أو الفصيح المقفى، من حيث القوافي أو الارتجالُ
أوالسحر. والزجل أكثر اكتساحا للجماهير لبساطته وشفافيته ورقته ودفئه وقدرته على
تشنيف أسماع المثقفين وغير المثقفين وإنصاته لنبض العامة، وهو الآخر تلاوين وصنوف.
وليس المجال هنا للتغزل في الزجل أو استعراض خصائصه ومقوماته، ولعل من المفيد
الإشارة إلى بعض الزجالين المغاربة ممن تستحضرهم ذاكرة الثقافة الشعبية عند النخبة
وممن لهم حضور وتواجد حقيقي في الساحة الزجلية الابداعية في المغرب، على شاكلة:
إدريس أمغار- مسناوي - إدريس الزاوي - إدريس الكرش - إدريس فكري - إدريس بلعطار - أحمد
زرمون - أحمد دحمون - أحمد لمسيح - محمد الباكي - محمد مومر - امحمد الزروالي - شكيب
اليوبي لحسن باديس - فؤاد شردودي - يوسف الموساوي - رضوان حجاج - الميلودي العياشي
- عبد الرحمان الجباري - توفيق العمراني - محمد موثنا - عبد الرحيم باطما - مراد
القادري - محمد الراشق عزيز محمد بنسعد.. وطاقات أخرى غيبها الموت أو حية وواعدة.
والزجل في المغرب يعرف نهضة مشهودة، وما ذلك إلا بفضل نقاد أدبيين
ومهتمين وباحثين ودارسين يعنون بهذا الفن، ويعملون باجتهاد ودراسة على توثيقه
توثيقا إليكترونيا يحفظه ويرقِّمه بأقراص مدمجة، أو الفيديو أو الكتاب وما تختزنه
الذواكر والصدور، احتماء من المتغيرات والعولمة حفظا له من عوادي الزمن. هكذا أصبح
التوثيق عبر وضع دواوين زجلية ضرورة ملحة.
وفي هذا الإطار، صدر حديثا - عن دار طوب بريس بالرباط، عمل إبداعي، نصا
وأصواتا، يحقق الفائدة والطرافة، من شأنه أن يثري المكتبة الزجلية المغربية، لا يتطلب
جهدا في المطالعة أو إعمالا كبيرا للفكر رغم وجود محسِّنات بلاغية، فضلا عن أنه
مُرفَق بقرص مدمج، بتسجيل ذي تقنية عالية ترسِّخ الصوت الجهوري والناعم، برنات
ولكنات صافية تسمو بالذوق وتهذب النفس وتخصب الخيال.
وردت طبعة الديوان الأولى لسنة 2007 تحت عنوان « مجمع الكلام»، وهو من
القطع المتوسط، ويحتوي على 126 صفحة، وقد صمم غلافه الفنان التشكيلي، الأستاذ
الباحث محمد بنعلي .
وأنطولوجيا الزجل المغربي هاته، تعدها نُهاد بنعكيدة ويقدمه لها الناقد
الأدبي محمد رمصيص في اثنتي عشرة ورقة، لنصوص من فن الزجل، تتنوع من حيث
دارجياتُها و لكناتُها بتنوع جغرافية المغرب أحمدالمسيح )الجديدة(،
ادريس بلعطار (الشماعية)، عزيز محمد بنسعد (البيضاء)، مراد القادر (سلا)، محمد الراشق (الخميسات)،
امحمد الزروالي (تازة).
وتَعرَّض الناقد محمد رمصيص بالدرس
للصورة الأدبية في شعر كل زجالي الديوان التسعة،مسجلا هيمنة الصورة الذهنية على
الصور التشخيصية والوصفية بالقصيدة المحكية.
وزجالو الديوان،أسماء من زماننا، يعشقون قرْض الزجل وبثه بين
عاشقيه،وقد دخلوا عوالم الزجل الإبداعية والفنية عن موهبة ودُربة ودراسة ليمارسوا
غواية الحرف..منصتين جيدا لنبض المعيش اليومي.. لأشجان ومشاغل وقضايا هذا الزمن
العصيب،منهم من توفي ومنهم من على قيد الحياة..هم أساتذة جامعيون ودكاترة ومسرحيون
ومنشطون ومخرجون تلفزيون وسينمائيون ومنتجون إذاعيون ومدراء مراكز عالمية،حصدوا
تكريمات ووُسِّموا بشواهد واعترافات وأدرع ريادة.. إن داخل المغرب أو خارجه.
ويقدم «مجمع الكلام» لكل زجال بصورته الشخصية،كما يخصص قصيدين اثنين
لكل واحد ،غير أن الحيز يضيق ويتسع، من شاعر إلى آخر، ويتراوح بين عشر ورقات وثلاث
ورقات .ومعلوم أن العبرة ليس بالحيز الذي يتخذه العمل الإبداعي،وإنما الأهم الكلمة
النافذة الثاقبة المؤثرة والموحية والتي تترك أثرا بليغا على نفسية المطلع أو
المستمع.
وهذا العمل الإبداعي -في الواقع- عملان بمجهود واحد، ولكنهما
مختلفان.فالناظر إلى المكتوب عن راهن القصيدة الزجلية بمقاطع قصيرة معبرة وساحرة
بالديوان،ليس هو المستمع له على القرص المدمج بصوت جهوري دافئ وطروب ولكنات وأداء
مختلف من حيث الحُسن والقوة والتأثير،فقشعريرة اللذة والإمتاع والمؤانسة والفائدة
تتفاوت من الأذن إلى العين،وتتحقق، لدى المثقف والعامي،وعلى اختلاف الأعمار
والمشارب.
والديوان -فعلا-باقة ورد زجلي،ترضية
لشعرائنا وترضية لجمهورهم،لكن بذوق خاص ومنظور معين لمعدته الزجالة القديرة نهاد
بنعكيدة.وربما يشفع لهذه التوليفة الإبداعية كون هذا الديوان موضوع في جزء أول،ما
يعني أنه مُشرع غدا في وجه كوكتيل آخر أو باقات أخرى لزجالين مغاربة آخرين لهم
اطلاع واسع وتمكُّن في الزجل واسم محفور في الأذهان والنفوس بقوة الكلمة وصدق
العبارة وخصب الخيال والحلم والعاطفة المائزة
وكأنما أدرك الناقد محمد رمصيص هذا
الأمر، فكتب« إن هذا العمل الإبداعي الجماعي« ليس سوى الجزء الأول والذي ستتلوه
أجزاء أخرى..»،
ولا نملك بعد مثولنا بين يدي هذا
الديوان الأنيق،إلا أن نمتن لكل من يعمل أو يساهم في خدمة تراثنا وما تدبجه أنامل
الإبداع يوما على صدر يوم، بما يحفظ أصالتنا وهويتنا وشخصيتنا ويؤرخ لأحلامنا
ولتفاصيل تفاصيل واقعنا المعيش،هذا علاوة على أن «عملا توثيقيا من هذا الحجم كما
يقول الناقد الأدبي محمد رمصيص، بقدر ما يساهم في سد الفراغ الموجود على هذا
المستوى،سيحقق مصالحة فنية بين جمهرة القراء والزجل المغربي سيما وهو موثق بالصوت
والكتابة...
الشاعر
أحمد لمسيح: انتصاري للكتابة بالعامّية كان بمثابة مرافعة فنّية
من
بلدة سيدي إسماعيل الدُّكّالية، التي تترامى على أرض خصبة بسهولها وحكايات أناسها
البسطاء وأغانيها الشعبية، قَدِم أحمد لمسيح وهو يحمل في ذاكرته إرثًا عريقًا
مثلما كانت جوانحه تموج بالتّوْق لاكتشاف أراضي الشمال الصاخبة بين فاس والرباط
والدار البيضاء، حيث واجه مثل مُجايليه من رفاق السبعينيات ظروفًا سياسية
وسوسيوثقافية صعبة تأثّر بها في كتابته الشعرية، وتأثر بالهوى اليساري ومفرداته
داخل ما تمليه هذه الكتابة، قبل أن يستقلّ بأسلوبه الشعري الذي قدّمه للقارئ،
بوصفه رائد القصيدة الزجلية الحديثة في المغرب. وقد شكّلت باكورته الشعرية «رياح…
التي ستأتي» (1976) أوّل عمل زجلي حديث داخل الشعر المغربي، في وقت كان يُنظر فيه
إلى الشعر بالعامّية بازدراء وتعالٍ. كان منصرفًا إلى مغامرته بمزيج من الوفاء
والعقوق في آن، يُصالح بين ثقافته العصرية وبيئته المحلية، ويراقب ذلك التوازن
الصعب بين البعد الصوتي الملازم للقصيدة الزجلية والمنحدر من فنّ الملحون العريق،
وجمالياتها الكتابية الجديدة والمؤسسة لحداثتها. ولهذا، يلاحظ القارئ تطوُّر تجربة
أحمد لمسيح الزجلية؛ فقد أسست أفقًا شعريًّا وكتابيًّا جديدًا يضاهي نظيره الفصيح،
وانحازت ـ على نحو ما يشبه مرافعة فنّية- إلى صوتها الفردي من خلال قصيدة بصرية
متقشّفة، تصدر في رؤيتها الخاصة للأشياء من زاوية حسّاسة ومتراخية تمزج بين
السخرية والحكمة والتأمل الصوفي، كأنّما هي مغامرة «اللسان الدارج» ويأسه من
رطانات اليومي والمبتذل.
■ كيف جاء أحمد لمسيح إلى الشِّعر، ثُمّ وثقت الصلة بينهما؟
□ لا بُدّ لي في البداية من التنويه بمبادرتك لأسباب عدّة أهمها: نادرا ما يقوم
شاعر أو ناقد بمحاورة الشعراء، وأن يدمج الزّجَل في أنطولوجيات الشِّعر في المغرب،
وفي حوارات عنه. ولا بُدّ ثانيا، من أن أشير إلى أمر لإزالة الالتباس؛ ففي المشرق
يطلقون تسمية الزجل على ما هو شبه فطري، وبدون الشعر العامي أو شعر اللغة المحكية
مثلا. بينما نحن نسمي كلّ ما يقال أو يكتب بالعامية زجلا، وداخل هذا الكون الشعري
تصنيفات عدة… إسمح لي أن أستحضر طرفة: كان الشاعر محمد عفيفي مطر ضيفا مشاركا في
مهرجان الرباط، وقال له محمد برادة: سيرافقك مفيد لك اسمه أحمد لمسيح، سأل مطر: من
يكون هذا؟، قال له برادة: إنّه زجّال معروف، فعلّق مطر: الزجّالون أُمِّيّون.. كيف
سيفيدني؟
ومرّتْ أيام واكتشف أنّ في الأمر تسكُّعَ مصطلحات. وماذا نقول عن باحث حاصل على
الدكتوراه وشاعر بالعامّية هو مراد القادري ينسب – بتواضع – شعره إلى الزّجل، وعن
السلطان عبد الحفيظ الذي له ديوانٌ في شعر الملحون؛ وهو صنف تقليدي رائع في شعر
الزجل، هل نقول عنه بأنّه شعرٌ شعبيٌّ؟ أما عن علاقتي بالكتابة الشعريّة فهي علاقة
مصادفة. كتبت محاولات متواضعة في النقد وتجارب أكثر تواضعا في السرد والمسرح
والشعر، وداخل هذا التيه انجذبْتُ إلى الشعر وغوايته، وبدأت أتخلّى عن غيره لأنّني
تيقّنْتُ بضعفي في غيره، وأنّه هو الملجأ لأعبّر عن ذاتي، أو ربما لأني به ابتدأت محاولاتي
المتعددة للانتماء إلى جنّة ـ جحيم الإبداع.