لنا دوما معكم لقاء

الأحد، 27 فبراير 2022

إدوار ﯖوردون كريـﯖ : رائد الإصلاح المسرحي

بقلم:الدكتور جميل حمداوي عضو الجمعية العربية لنقاد المسرح

تمهيـــــد:
يعد إدوارد ﯖوردون كريـﯖ من أهم المخرجين الذين ثاروا على المسرح الأوربي كما يبدو ذلك جليا في كتابه:" في الفن المسرحي" إلى جانب بريخت بنظريته اللاأرسطية حول المسرح الملحمي التي أثبتها في كتابه: " الأورغانون"، وڤيزڤولد مايرهولد صاحب النظرية البيوميكانيكية، وأنطونان أرطو رائد نظرية مسرح القسوة التي شرحها بإسهاب وتمطيط في كتابيه:"مسرح القسوة" و:"المسرح وقرينه"، وآدولف آبيا مكتشف سحر الإضاءة والفراغ والأشعة التموجية في مجال السينوغرافيا الدرامية، وجاك كبوه رائد المسرح التجريبي القائم على الأداء الصامت والتعبير الميمي، وﯖروتوفسكي صاحب نظرية المسرح الفقير، وجان ڤيلار صاحب نظرية المسرح الاحتفالي الشعبي، وأوجينيو باربا صاحب نظرية المسرح الأنتروبولوجي أو ما يسمى أيضا بالمسرح الثالث.
ومن ثم، فإدوارد ﯖوردون كريـﯖ يعتبر في الحقيقة رائد الإصلاح المسرحي في العالم، إذ تتلمذ عليه الكثير من الممثلين والمخرجين، و ذاع صيته في كثير من بقاع العالم، فصارت آراؤه المسرحية الجريئة نبراسا يستهدي بها الكثير من هواة المسرح ومثقفوه.
ثم ، أصبحت تعاليمه في مجال التمثيل والإخراج والسينوغرافيا تدرس في الكليات ومعاهد الفنون الجميلة عبر أرجاء العالم ولاسيما نظريته المتعلقة بمسرح المستقبل.


1-
من هو إدوارد ﯖوردون كريـﯖ ؟
ولد إدوارد ﯖوردون كريـﯖ Edward Gordon Craig في 16 يناير1872م ببريطانيا، نشأ في أسرة فنية واعية ومثقفة، أمه إليانور أليس أو إلن تيري عظمى الممثلات في المسرح الإنجليزي في جميع عصوره.
اصطحب إدوارد ﯖوردون كريـﯖ أمه في معظم رحلاتها الفنية إلى أوربا وأمريكا؛ مما جعله يطلع على كثير من العروض المسرحية وقواعد شعرية الدراما المسرحية ومكوناتها الفنية والتقنية عن كثب وقرب.
هذا، وقد مارس كريـﯖ التمثيل مبكرا في فرقة هنري إيرفينج Henri Irving، وصار بعد ذلك نجما ساطعا، واقترن اسمه بأدوار البطولة في مسرحيات شكسبير. بيد أنه ثار على المسرح الإنجليزي على واقعيته الفجة المباشرة؛ فاعتزل التمثيل والإخراج لمدة طويلة، وكرس قلمه الجريء لانتقاد الممثل النجم في غروره، والممثل المدير Actor-manager في منطقه التجاري وجهله بفنون المسرح.
ولقد كان كريـﯖ بارعا في فن النحت والحفر والكتابة التنظيرية والنقدية، كما كان رجلا بارزا في مجال التشكيل ووضع الخطاطات والتصاميم الإخراجية.
و توفي إدوارد جوردون كريج سنة 1966م بعد أن اعترف العالم قاطبة بجهوده الثورية الجبارة لإصلاح المسرح الغربي وإعادته إلى أصوله الفنية الأولى.

2-
مؤلفاته وإنجازاته:
أصدر إدوارد ﯖوردون كريـﯖ مجموعة من الدراسات في مجال المسرح، من بينها مجلته المشهورة التي كانت تحمل اسم القناع:"الماسك Mask The " التي ظهرت لأول مرة سنة 1908م بفلورنسا بإيطاليا ، واستمرت في النشر إلى غاية سنة 1929م. ويدل عنوان المجلة على مدى اهتمام كريـﯖ بالأقنعة السحرية والوجوه المقنعة ، إذ كان يعتبر القناع بمثابة الرأس المثالي في المسرح.
وألف كريـﯖ كتاب" فن المسرح" ونشره بالألمانية سنة 1905م قبل أن ينشره بالإنجليزية، وقد ترجمه إلى اللغة العربية الناقد المصري الأستاذ دريني خشبة سنة 1956م. وألف كريـﯖ أيضا كتابا بيوغرافيا عن هنري إرفينج Henri Irving سنة 1930م وقوبل بإعجاب شديد.
وأنشأ كريـﯖ أيضا معهدا للتمثيل في فلورنسا سنة 1913م لتعليم فنون المسرح ، لكن أبوابه ستغلق بسرعة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914م بعد أن اشتغل سنة واحدة فقط

.
3-
ثورة كريـﯖ على الواقعية والطبيعية :
ثار إدوارد ﯖوردون كريـﯖ على المسرح الأوربي الذي كان غارقا في عتمة النظريات الواقعية المباشرة والفلسفة الطبيعية التي كانت تستند إلى التقليد والمحاكاة والانعكاس المرآوي والتصوير الحرفي.
فالمذهب الواقعي بالنسبة لـﯖوردون كريـﯖ " وسيلة وضيعة من وسائل التعبير، خلعوها على الذين عميت بصائرهم.
ومن هنا هذه الأغنية التي تكشف بجلاء وتفسر هذا الأمر:" الجمال هو الحق، والحق هو الجمال- ذاك هو كل ما أعلمه في هذه الدنيا، وكل ماتعوزك معرفته".
أما الذين عميت بصائرهم فتسمعهم ينقون كالضفادع:" الجمال هو الواقع، والواقع هو الجمال- ذاك هو كل ما أعلمه في هذه الدنيا، وكل ما أحرص على أن أعلمه- فلا تدع المعرفة وراء هذا ".
ويحذر إدوارد ﯖوردون كريـﯖ من تقليد الطبيعة حتى في الإضاءة والسينوغرافيا المشهدية . لأن الطبيعة تقتل الإبداع الحقيقي، وتميت جوهر المسرح. وبالتالي، تسقطه في التكرار والاجترار والاقتباس الفج، وتزيل عنه الروح والحيوية. وفي المقابل، تغلفه بالرتابة والملل والسكون:" أما تقليد الطبيعة، فينم عما في نفس المقلد من التوقح الذي لايطاق في ادعاء المقدرة التي لاتنبغي إلا لله، على أنه يجمل بمدير المسرح أن يهدف دائما إلى أن يكون فنانا، إلا أنه ما لايخلق به أن يحاول الوصول إلى ماميزت السماء به نفسها، وفي مقدوره ألا يتورط في هذا الخطإ إذا لم يحاول قط أن يسجن الطبيعة في مسرحه، أو أن ينقل لنا نسخة منها؛ لأن الطبيعة لايمكن أن تسجن، ولا تسمح لأحد بأن يعمل لنا نسخة منها، ولو بأي مقدار من النجاح".
ومن جهة أخرى، يدافع كريـﯖ عن المسرح الرمزي القائم على الظلال الشاعرية والرموز الموحية والدوال الانزياحية والعلامات السيميائية التي تستحث المتقبل وتستفز الراصد المسرحي. يقول كريـﯖ مشيدا بالرمزية المسرحية ومزاياها الدلالية والوظيفية:" الرمزية... والحق يقال، شيء ينتحي جادة الصواب، ثم هي شيء معقول، محكم الترتيب، وهي اليوم تستعمل في العالم كله، ونحن لايسعنا أن نسميها شيئا مسرحيا، إذا كنا نقصد بالشيء المسرحي الشيء الزاهي المبهرج، ومع ذاك، فالرمزية هي لباب المسرح، إذا لم يكن بد من أن ندرج فنها بين الفنون الرفيعة.
والرمزية ليست شيئا يخشى منه- إنها الرقة نفسها؛ وهي شيء يفهمه الملوك وذوو المناصب الرفيعة. وثمة نفر يخشون الرمزية، لكننا لاندري لماذا يخشونها. هم يشتد سخطهم أحيانا، ويدعون أن سبب كراهيتهم للرمزية هو أنها تحمل في طياتها البلاء والأذى، وأنها ليست من الأدب في شيء. ثم، هم يقدمون لهذا بقولهم: إننا نعيش في عصر واقعي إلا أنهم لا يستطيعون أن يفسروا لنا لماذا يستخدمون الرموز لكي يقولوا لنا هذا الكلام، ولا كيف كانوا طوال حياتهم يستخدمون هذه الرمزية لكي يقولوا لنا هذا الكلام، ولا كيف كانوا طوال حياتهم يستخدمون هذه الرمزية نفسها التي يجدونها، مما يعسر عليهم إدراكه إلى هذا الحد!"
ويعني هذا أن كريـﯖ كان يدافع عن المسرح باعتباره فنا وإيحاء وجمالا وحقا ونبلا ومثلا أعلى. وفي نفس الوقت، كان يسفه بالمسرح الواقعي ويسخر من المسرح الطبيعي الذي يتسم بالإسفاف والسطحية الفجة والنقل الاستنساخي.

4-
مفهوم المسرح لدى كريـﯖ:
المسرح عند كريـﯖ فن شامل ومركب ووحدة فنية متناغمة ومنسجمة، يعتمد على الحدث والكلمات والخط واللون والإيقاع الصوتي والموسيقي والكوليغرافيا. إن الفن المسرحي الحقيقي عند كريـﯖ :" ليس هو التمثيل أو الرواية التمثيلية، وليس هو المناظر المسرحية أو الرقص المسرحي، إلا أنه يتألف من جميع العناصر التي تتكون منها كل الأشياء.إنه يتألف من الحركة المسرحية التي هي روح التمثيل، ومن الكلام الذي هو جسم المسرحية؛ ومن الخطوط والألوان التي هي القلب النابض للمشهد، ومن ضبط الإيقاع الذي هو قوام الرقص."
ويقصد بهذا أن المسرح المثالي يجمع بين المستوى الحواري اللفظي والمستوى البصري السينوغرافي والحركي، كما أن الفن المسرحي أيضا خلق وإبداع واكتشاف وإيحاء وجمال وشاعرية رمزية وانزياحية وتشكيل علاماتي يعتمد على الإيحاء والظلال بدلا من التفاصيل الطبيعية والواقعية المملة.
هذا، ويستمد الجمال المسرحي أيضا مقوماته من العالم الروحاني لا من عالم الواقع، كما يقوم على السمو والبساطة لا على الإسراف في زخرفة الديكور والانسياق وراء باروكية المناظر وترف السينوغرافيا .
كما أن المشاهد الذي يأتي إلى المسرح لا يأتي من أجل الاستماع والإنصات إلى حوارات الممثلين وصخبهم وهرائهم، بل من أجل مشاهدة فرجة بصرية وتشكيلية ممتعة، وفي هذا الصدد يقول كريـﯖ:" إن الجميع قد أتوا ليشاهدوا المسرحية... وهذه الرغبة في مشاهدة التمثيل هي من الضرورة كجميع الرغبات التي فطر عليها الإنسان، والإنسان لايؤمن بالشيء هذا الإيمان الراسخ إلا حينما يراه رأي العين، وهناك من الأدلة على ذلك ما لايحصى، بل ستلمس أنت الكثير من تلك الأدلة في هذه اللحظة دون أن أذكرها لك، وعلى هذا فهل من المعقول أن نطالب بإعطاء الناس هذا الشيء الذي يرغبون فيه ويذهبون إلى المسرح ليجدوه فيه؟
إنهم يذهبون ليشاهدوا شيئا، فيجب أن يشاهدوا هذا الشيء؛ لأنه لن يقنعهم إلا أن يشاهدوه، ولهذا اعتقد أننا لكي نرضي أنظارهم إرضاء صحيحا، وبهذا نرضي طبائعهم؛ يجب ألا نربكهم أو نربك أبصارهم التي هي أكثر إرهاقا بأن نصك أسماعهم في الوقت نفسه بموسيقى أو بكلمات، كما يجب ألا نثقل على أذهانهم بالمشكلات ، أو نزلزل أبدانهم بالانفعالات."
وعليه، فالمسرح عند كريـﯖ هو مناقض لنظرية المحاكاة المباشرة ومعاد للمسرح الواقعي والطبيعي القائمين على مبدإ الاقتباس والنقل الحرفي. إن الفن المسرحي عند كريـﯖ هو الذي ينحو منحى:"الرمزية التجريدية التي نستطيع أن نجملها في عبارة المسرح الخالص، أو المسرح كمسرح، وهو لايعتمد على النص المسرحي إلا في حدود قدرته على الإيحاء بمعنى عام، وبإحساس عام، ثم يترجم هذا المعنى وذلك الإحساس مستعينا بأقل القليل من الكلمات، ومعليا الوسائل العضوية الأخرى كالجست (الإشارة) وحركة الممثل، وقطع ولون الزي المسرحي، وغير ذلك من الوسائل المسرحية، ليحصل على ترجمة شكلية ولونية لهذا المعنى العام، وهو أمر يقربنا من فن التعبير الصامت (الميم والبانتوميم) وقد جمل بإشارات وابتكارات خيالية وسحرية تحقق من خلال تركيب ساحر من الديكور والإضاءة والأزياء عرضا مسرحيا ساحرا."
وعلى أي، فالمسرح عند كريـﯖ فن بصري جمالي حركي مقنع بسحر الرمز والعلامات السيميائية الموحية ، يحمل في طياته رؤى إنسانية عميقة.

5-
ماهية الإخراج المسرحي عند كريـﯖ:
تستند مهمة المخرج عند كريـﯖ في تحويل المسرحية المكتوبة إلى فرجة بصرية عن طريق فهمها وتفسيرها. أي بنقل المسرحيات التي يكتبها المؤلف المسرحي من لغة الكتابة الدرامية إلى لغة الرؤية والتمسرح الميزانسيني على المنصة.
ومن هنا، فالمخرج المسرحي بالنسبة للممثلين ينبغي أن يكون كفءا يلم بكل الفنون والمعارف ، ويكون بمثابة قائد السفينة أو بمثابة ربانها الأمهر، أو هي على وجه التحقيق علاقة رئيس الفرقة الموسيقية بالفرقة أو علاقة الناشر برجال المطبعة.
ولا تبدأ مهمة الإخراج إلا بممارسة التمثيل لسنوات عدة، والابتعاد عن التقليد والمحاكاة الواقعية والطبيعية، والانطلاق في المقابل من المذاهب الرمزية الموحية القائمة على الفن والإيحاء والبحث عن النماذج المثلى والعليا في مجال المسرح والدراما، بله عن الاجتهاد في السينوغرافيا التشكيلية والبصرية، والبحث عن الجديد في مجال الإضاءة والمناظر والديكور، والإيمان بفلسفة شخصية مبدعة مبتكرة تبحث عما هو شخصي في ميدان الأزياء والإضاءة والحركة دون الرجوع إلى الكتب والمؤلفات.
ومن ثم، فعلى المخرج أن يكون فنانا شاملا مبدعا يلم بكل فنون المسرح، ويتقن أصول الحرفة والتمثيل، وتكون له دراية شاملة بعلوم الحركة والإضاءة والصوت وفنون الرسم والتصوير والحفر والتشكيل.
ويرفض كريـﯖ كل الرفض الإسراف في بناء الديكورات ، ويشمئز من الزخارف الباروكية المترفة والتأثيث المبرجز، ويدعو إلى البساطة والسمو في استعمال السينوغرافيا الإطارية والسياقية، ولكن بشرط أن يتمسك الفنان المخرج بالظلال الموحية للأشياء وتحويل القطع والكتل إلى علامات دالة ورموز موحية.

6-
منهجية الإخراج الميزانسيني عند كريـﯖ:
يستعمل كريـﯖ منهجية ذاتية وانطباعية في قراءة عمل المؤلف تعتمد على التخييل الفكري والذهني والتصميم الحلمي والتشكيل الوجداني وتجميع الأحاسيس الناتجة عن ترسبات القراءة، لينتقل بعد ذلك إلى وضع الخطاطة الإخراجية على الورق ورسم السينوغرافيا التشكيلية التي كانت تقوم على التصاميم الموحية وتمثل أجواء التجريد والرمزية الشعورية والشاعرية السحرية.
ويقول كريـﯖ عن تصوره الإخراجي عندما دعي إلى الدانمرك لإخراج مسرحية:" المدعون The pretenders " في 1926م:
"
عندما أحضر لإنتاج مسرحي، فإنني اتبع أسلوبا غير منطقي، وأحاول أن أدرك ألأشياء بأحاسيسي، لا بعقلي...
وعندها اهتدي إلى النص ألمسه بيدي اليسرى، وأحاول أن استقبل الأشياء من خلال حواسي، ثم أسجل بعض الملاحظات بيدي اليمنى، التي ستدرك ما أحسست، ومع ذلك، فقد أدركت أنني غالبا ما اضطر لمراجعة التأثير الأولي...
أما التفكير فيأتي في مرحلة ثانية، فالتفكير هدف عملي، إنني أفكر فيما بعد في الطريقة التي أوضح بها ما أحسسته للمتفرج...".
وعلى مستوى التطبيق العملي، فثمة مجموعة من المبادئ التي ينبغي أن يلتزم بها المخرج حسب كريـﯖ وتتمثل في الخطوات التالية:
قراءة المسرحية قراءات متكررة ( على الأقل 12 مرة)؛
الالتزام بنص المؤلف التزاما صادقا وأمينا ودقيقا، وتفسير فكرته المحورية وترجمة رسالة النص مشهديا وبصريا؛
تخييل نص المؤلف بصريا وميزانسينيا؛
قراءة المسرحية قراءة جيدة فهما وتفسيرا، تفكيكا وتركيبا؛
دراسة جنس المسرحية وتعيين نوعها ومشاهدها وفصولها ومناظرها؛
عدم إعارة تعليمات المؤلف السينوغرافية أي اهتمام؛ لأن المؤلف بتلك الإرشادات الميزانسينية يتطفل على اختصاص المخرج؛
تخيل النص المسرحي بطريقة دراماتورجية قائمة على الإحساس والجمال والشعور مع تحويل النص إلى مجموعة من الصور الفنية المشهدية، وتسجيل الانطباعات التي تتركها المسرحية في المخيلة، وتخير الخطوط والإيقاع والألوان وبعض المناظر والأفكار؛
وضع تصميم إخراجي ورقي قبل الشروع في العمل، وتصحيح أخطائه الممكنة أثناء الشروع في التنفيذ؛
البحث عن الوحدة الفنية والانسجام الهرموني عبر وضع التصميم الإخراجي؛
التعرف على المسرح ودهاليزه ومكوناته وخشبته الركحية وكواليسه وآلياته من قبل المخرج والممثلين على حد سواء؛
التحكم أثناء تدريب الممثلين في منطق الأفعال والحركات والإلقاء الصوتي والإضاءة والتشكيل السينوغرافي والرقص والموسيقا؛
وضع السينوغرافيا الموحية التي تنسجم مع روح العمل المعروض ونغمته البارزة؛
وضع المناظر المناسبة حسب سياق المسرحية، وتصميم الملابس والأزياء ببساطة سامية بدون إسراف في الديكورات والزخارف الباروكية ؛
توزيع الأدوار على مختلف الممثلين الذين يجب أن ينتهوا من حفظها قبل الشروع في عمل أي تجربة، وفي الوقت الذي ينكب الممثلون على حفظ أدوارهم يكون صنع المناظر والملابس موشكا على التمام؛
السعي للمحافظة على الانسجام بين أعضاء الفرقة ومكونات العرض المسرحي؛
تدريب الممثلين على أداء جميع الحركات وإلقاء كل ما يقولون؛
يجب على مخرج المسرحية ألا يمثل في عمله السينوغرافي بأي وجه كان ؛
تحويل الممثل إلى دمية أو كركوز أو قناع أو إلى لعبة الماريونيت قصد التحكم فيها طاعة وانقيادا.

و ثار كريـﯖ كثيرا على غرور الممثل النجم والبطل الساطع في مجال المسرح، و استهان أيضا من تبجح المدير المحافظ في المسرح الإنجليزي رافضا فيه منطقه التجاري وجهله المطبق بفنون المسرح وقواعد الدراما. ومن ثم، فقد دعا المخرجين ليكونوا صارمين مع الممثلين مطالبا إياهم بتحويلهم إلى أقنعة وعرائس ودمى ليسهل ضبطها والتحكم فيها طاعة وانقيادا رغبة في تنفيذ الخطة الإخراجية المرسومة.
وكان كريـﯖ يرفض السينوغرافيا الواقعية والديكورات المرجعية المفصلة ، ويطالب باستبدالها بعناصر سينوغرافية موحية تحمل دلالات مجازية ورمزية مكثفة. ويعني هذا أنه كان مخرجا شكلانيا وجماليا يقدس الفن ويرجح كفته على حساب المضامين الطبيعية والواقعية .
ويقول الدكتور أحمد زكي عن منهجية كريـﯖ:" أدار كريج ظهره للواقعية وتخلص من نظام الأجنحة ( الكواليس) المعروف في خشبة المسرح وكافة الزوائد الخلفية من ستائر وقطع ديكور تقليدية. واستغنى تماما عن المناظر المرسومة في عمق المسرح. ولم يكتف بذلك فحسب، بل رفض أيضا إضاءات وأنوار الحافة المعروفة في المسرح والتي لم تكن تستغل في عروضه المسرحية إلا نادرا وبقدر ضئيل.
واعتمد كريج في مؤثراته المسرحية على مزيج من الفراغ والنسب الجمالية وإضافات شاملة من الأنظمة الضوئية الملونة لتمتزج بالمناظر والملابس والجو العام للعرض المسرحي.
وفي نشرات كريج المسرحية يناقش الفنان العظيم فن المسرح فيوضح أن التجهيز على خشبة المسرح لا ينبغي أن يكون صورة تحاكي مكان المسرحية، وإنما لابد أن تعطينا إيهاما للواقعية المتخيلة وليس التفاصيل الواقعية.
والحقيقة أن كريج لم ينجح في نشر أفكاره إلا عن طريق تصميماته التشكيلية والتي جاء معظمها غير عملي لمسرح عصره".
ونفهم من هذا، أن كريـﯖ كان يعتمد في إخراجه المسرحي على الاتجاه الفني في تنفيذ تصوراته الركحية، ويستعين بمجموعة من التصميمات التشكيلية والخطاطات التوضيحية في رسم كل تفاصيل العرض المسرحي . بيد أن المسرح الإنجليزي في عصره لم يكن صالحا بشكل عام لتطبيق أحلامه الطموحة ومشاريعه الإخراجية العظيمة وآرائه الإصلاحية الثورية التي كان يستمدها من المسرح المصري والمسرح الإغريقي ومسرح القرون الوسطى والمسرح الأفريقي والمسرح الشرقي والمسرح الأنتروبولوجي الذي كان يتميز بالسمو والبساطة.

7-
مفهوم كريـﯖ للمثل المسرحي:
ثار إدوارد ﯖردون كريـﯖ على الممثل الواقعي والممثل الطبيعي اللذين كانا نموذجين وفيين لمنطق التقليد والمحاكاة والاندماج السطحي، ودعا إلى استبدال ممثل النقل والاقتباس والتقمص الحرفي بممثل الخلق والإبداع. ففضل أن يستخدم الأقنعة والدمى والعرائس والماريونيت في مسرحياته بدلا من الممثلين، و طالب الممثلين أن يكونوا نسخا إيجابية من هذه الأشكال اللعبية، كما أمرهم بطاعة المخرج ولو كان ديكتاتوريا، وعليهم أن يستسلموا لإرادته وأوامره ؛ لأن المخرج بمثابة قائد للسفينة، فمن خالف أوامره فقد أخل بنظام السفينة، وعلى المتمرد أوالمنشق أن يحاكم محاكمة شديدة وصارمة.
وينبغي للمخرج بالنسبة لكريـﯖ أن يتسم بطابع سلطوي وديكتاتوري، فلا يعطي أدنى حرية للممثلين لكي يتصرفوا وفق ملكاتهم الشخصية فيمثلوا حسب رؤاهم الذاتية. فكريـﯖ يريدهم أن يكونوا دمى مطوعة ومحركة بسهولة ومرونة شديدتين، تنفذ بانقياد سريع كل خطوات التصميم الدراماتورجي الذي وضعه المخرج للمسرحية والفرقة على حد سواء.
والسبب وراء هذا الطرح هو الحد من غرور الممثل النجم في المسرح الإنجليزي الذي كان يتباهى بعروضه المسرحية، فيتبختر فوق الركح صوتا وحركة وخطابا، عارضا شخصيته الفنية العظيمة أمام الجمهور الحاضر بكل قوامها الكوليغرافي وقسماتها التشخيصية. ثم، يتعالى على المدير الفني ويتكبر على المخرج بشهرته وذكر مكانته عند النقاد والجماهير المعجبة .
ومن هنا، يطلب كريـﯖ من الممثل:" أن يكون نغمة مؤتلفة مع جميع النغمات المسرحية الأخرى، من ممثلين وممثلات، وأدوات وأضواء ومناظر وحركات وخطوط وألوان...ولكنه لم يكن يجد من يرعى في تمثيله... وقد جاهد طويلا لكي يحقق ذلك...إلا أنه أخفق مؤقتا؛ لأن الممثلين والممثلات كانوا لاينسون غرورهم فوق المسرح، وكان هم كل منهم أن يصفق له الجمهور وحده... وأن يقال عنه إنه هو وحده الممثل العظيم الذي لايباري... لماذا؟ ...لأنه كان يخلب ألباب الجمهور بوجهه المعبر؛ وتقلصات عضلاته التي كان يسرف في إظهارها إسرافا يطغى على جميع مايضمه المنظر؛ بل ينسخ المسرح كله في أعين المشاهدين...فلا يرون إلا حضرة الممثل... أو حضرة النجم العبقري!
ولما ضاق كريـﯖ بهذا الطراز من الممثلين تمنى أن يختفوا جميعا، وأن يحل محلهم الممثلون الدمى... والعرائس... أو الماريونيت."
والغرض من تحويل الممثل إلى دمية هو التحكم في دفة الممثل وتحريكه كيفما يريد المخرج ليوصل فكرته إلى الجمهور، ثم تمثل الروح الدينية والطقوسية التي تكون وراء استخدام الأقنعة والدمى التي توحي بفكرة العبادة والتقديس.
ويذهب الدارسون والنقاد و خبراء المسرح إلى أن:" مسرح الخبز والعرائس " Bread and Puppet Théatre  الأمريكي المعاصر هو أقرب نظير للمثل الأعلى عند كريج على الرغم من أن كريج أراد أن يصبح الممثل العروسة التي تحرك، لا أن يتخذ سبيل الزخارف للعرائس، إذ كان الحجم والتحفظ والهدوء والتركيز الذي لايتزحزح لتماثيل مسرح الخبز والعرائس لها أحيانا تأثير منوم روحي تقريبا. وظهور دمعة كحبة اللؤلؤ على خد سيدة مكفوفة غير عاطفية، تشبه العروسة التي تحركها خيوط، يمكن أن تحمل من العواطف الإنسانية أكثر مما يحمله فيض غزير من الدموع يتدفق حادا على وجه ممثلة من أشد الممثلات جنوحا إلى الخيال. والممثل هو الذي يستطيع مع ذلك أن يحافظ على المظهر الخارجي لتلك العروسة، بينما هو باطنيا على وعي بما ينطوي عليه الفعل من دلالات روحية، التي أراد كريج أن يقدمها للمسرح".
و يريد كريـﯖ أن يكون ممثله في مسرحه مثالا للطاعة العمياء ونغمة منسجمة مع باقي النغمات التي يسهر عليها المخرج المايسترو أثناء عزفها وتأليفها في بوتقة فنية متكاملة.
وعليه، فإذا كان الممثل عند ستانسلافسكي هو الذي يأخذ بمبدإ التقمص والاندماج والمعايشة السيكولوجية، وإذا كان الممثل عند مايرهولد آلية ميكانيكية حية، وإذا كان عند بريخت هو الذي يأخذ بمبدإ التغريب والتباعد، وإذا كان عند ﯖروتوفسكي هو الممثل الشامل، وإذا كان لدى السيميائيين عاملا من العوامل، وإذا كان عند أندري أنطوان هو ذلك الممثل الذي يحاكي الطبيعة، وإذا كان الممثل عند ماكس مينينجن هو الذي يمثل على ضوء الواقعية التاريخية، فإن الممثل عند كريـﯖ بمثابة دمية أو لعبة الماريونيت الخارقة للعادة.

8-  
مكانة كريـﯖ في المسرح العالمي:
يعترف الكل بأن إدوارد ﯖوردون كريـﯖ كانت له مكانة متميزة في المسرح العالمي بسبب ثورته على المسرح الطبيعي والواقعي في القرن التاسع عشر ، وبسبب دعوته إلى إصلاح شامل للمسرح يمس التشخيص والإخراج والسينوغرافيا وكل المكونات التي ينبني عليها العرض المسرحي. وفي المقابل، كان يطالب بالرجوع إلى شعرية المسرح وأصوله الفنية والجمالية كما كان معروفا لدى المصريين واليونان والرومان ولدى الأوروبيين في العصور الوسطى. وقد تمنى من أعماق قلبه كل الموت للمسرح الغربي من أجل إعادة بنائه من جديد على أسس فنية صحيحة على غرار دعوة المخرج الفرنسي أنطونان أرطو في كتابه : " مسرح القسوة" .
ونظرا لمكانته السامية، فقد تتلمذ عليه أعظم مخرجي أوربا الوسطى فضلا عن ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وسويسرا والدانمرك والسويد والنرويج.
ومن المخرجين الذين تتلمذوا عليه : المخرجان الألمانيان وهما: ماكس راينهارت RIENHARDT ، وأطو براهم Otto Brahm، والمنظر الروسي ستانسلافسكي STANSLAVSKI، والمخرج السويسري أدولف آبيا A.APPIA.
واعترافا بمكانته في ميدان إصلاح المسرح، فقد اجتمع فنانو أوربا وأمريكا سنة 1964 م، فبايعوه بالإجماع رائدا للإصلاح المسرحي.
ومن أهم حسنات كريج أيضا أنه تنبأ بمسرح المستقبل الذي ينبني على الفن والاكتشاف والبحث الدرامي والدراماتورجي ، ويركز على الإيحاء الفني والجمالي أكثر مما يركز على الانعكاس المباشر والمرآوية المباشرة:" إن مسرح المستقبل سيكون مسرح رؤى، لامسرح طقوس ولا مسرح أقوال... مسرحا نسمع فيه اقل مما نرى، مسرحا بسيطا يصل إلى فهم الجميع عن طريق الإحساس، مسرحا ينفجر من الحركة، الحركة التي هي في الواقع رمز الحياة..."
ويعني هذا أن مسرح المستقبل هو مسرح الرؤى المجردة ومسرح الصورة المشهدية الجميلة والرؤية الكوليغرافية والتصور الحركي الممتع .

9-
تقويم الإصلاح المسرحي عند كريـﯖ:
تتسم أفكار ﯖوردون كريـﯖ بالغرابة والغموض وعدم الوضوح وصعوبة تطبيقها ؛ لأنها كانت مجرد أحلام وأفكار طوباوية من الصعب ترجمتها دراماتورجيا . لذا، فقد كان:" رجل مسرح بحق ورجل الأفكار والأحلام وإن كانت تنقصه حبكة التطبيق وربما كان ذلك لضعف التكنولوجيا المسرحية في عصره. وهو وإن كان قد أخرج عددا ضئيلا من المسرحيات فلم يكن محظوظا أبدا إذ لم يشهد تلك الأعمال أكثر المترددين على المسرح".
كما تتسم أفكاره المسرحية بنشازها عندما رفض ألا يستقبل معهده المسرحي أية امرأة إطلاقا، كما تتميز هذه الأفكار بالسوداوية والغرور والعدمية وبالضبط حينما تمنى أن يموت كل الممثلين والممثلات، وأن تتحطم كل المسارح الغربية ، والمبرر في ذلك عند كريـﯖ أن المسرح الأوربي كان في عهد ه مسرحا واقعيا وطبيعيا يعتمد على النقل والاقتباس والمحاكاة الحرفية المباشرة والتقليد الأعمى.
كما يتصف كريـﯖ بالصرامة والقسوة والديكتاتورية في التعامل مع الممثلين ، والميل إلى الاتجاه الشكلي الرمزي على حساب المضمون والرسالة والأطروحة. ويمكن القول: إن كريـﯖ كان مخرجا شكلانيا ومبدعا شاعريا وفنانا تجريديا ونحاتا رمزيا يحاول أن يعيد للمسرح وظيفته الفنية المتمثلة في التمسرح أو شاعرية المسرح باعتبار أن الشعر هو أب المسرح.
وتتسم أفكاره أيضا بالتجريد والمبالغة والميل الكثير إلى التنظير على حساب التطبيق، إذ لم يستطع ميدانيا أن يترجم آراءه النظرية على أرض الواقع ويطبقها بشكل إجرائي واضح على رقعة الركح المسرحية.

خاتمـــــة:
نستشف، مما سبق ذكره، أن إدوارد ﯖوردون كريـﯖ يمثل الاتجاه الفني الرمزي القائم على التجريد والإيحاء والشاعرية في النظر إلى الإخراج المسرحي. ومن هنا، فقد رفض كريـﯖ المسرح الواقعي والطبيعي، ودعا إلى استبدالهما بفن مسرحي يقوم على أصول التمسرح الحقيقي الذي يتناغم فيه الحوار مع الحركة ، واللون مع الإيقاع.
ومن أهم مبادئه الأساسية أنه دعا إلى الممثل الدمية والممثل القناع، وثار على مقومات المسرح الغربي ، فدعا إلى تحطيم كل أصنامه وطابوهاته الساذجة، وأمر بإعادة تركيبه و بنائه من جديد على أسس فنية صحيحة وأصول جمالية حقيقية قائمة على بساطة المناظر وسمو الإحساس وصدق الشعور وروعة التخييل وعمق التجريد وتمثل سحر الحركة ورهافة نغمة الإيقاع، والابتعاد قدر الإمكان عن مسرح الحوارات والطقوس، واستبداله بمسرح الحركة والرؤية البصرية والفرجة المشهدية الممتعة.
ويكفي كريـﯖ فخرا أنه رائد الإصلاح المسرحي في العالم كله، ويشبه في ذلك مارتن لوثر رائد الإصلاح الديني في العصور الوسطى؛ لأن كريـﯖ أراد أن يخلق مسرحا مستقبليا يعتمد على الاكتشاف والبحث الدرامي، ويحمل رؤى ذهنية وجمالية واسعة الآفاق . وينبني، بالتالي، على سحر الفن وسمو الجمال وصدق الإحساس ونبل المشاعر.
المصادر والمراجع:
أحمد زكي: الإخراج المسرحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1989م؛
إدوار ﯖوردون كريـﯖ: في الفن المسرحي، ترجمة: دريني خشبة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، الطبعة الأولى 2000م؛
د. حسن يوسف: المسرح والأنتروبولوجيا، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2000م ؛
 د.سعد أردش:المخرج في المسرح المعاصر، عالم المعرفة، الكويت، الكويت

إدوارد جوردون كريج: عرض خبير



 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : رشيد شكري